الجمعة , 29 نوفمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / علي مقهي “الحالمون بالغد”‏ – “البعد الرابع والخامس من لوحة المعاناة” ‎

علي مقهي “الحالمون بالغد”‏ – “البعد الرابع والخامس من لوحة المعاناة” ‎

علي مقهي الحالمون بالغد
“البعد الرابع والخامس من لوحة المعاناة”
حسام بدراوي
بريشتي
كتبت بعد إجراء أول تدخل جراحي لي في المانيا منذ شهرين ، ولم أكن أعلم حينها أنني سأمر في مضاعفات رهيبة ومعاناة عنيفة وعمليات أخري وعناية مركزة لمده إثنان وخمسون يوما ، كتبت أقول تتشابه مناحي الحياة ، ولا نعرف كنهها إلا بالمرور في تجاربها وتحمل مشقتها ، والتعبير عنها…و التطبيب واحدة من المهن الإنسانية الاستثنائية التي لا مثيل لها والتي يخفف من خلالها الممارس آلاماً ويعالج أمراضاً ويزيل أعراضاً ولكنه بتكرار فعله ، وسهولته بالنسبة الي مهارته قد ينسي الجانب الآخر من صورتها ، جانب أن يكون الطبيب هو نفسه المريض ، أن ينسي كيف يكون الخوف من شكة الإبرة وهي تدخل من الجلد الي الوريد أو الشريان ، والألم من الفتحة الجراحية بعد العملية عند بدء الحركة . وصعوبة ما يفعله كل إنسان ببساطة في يومه ، من أن يأكل ، و يتبول بدون قسطرة أو أن يكون مجرد دخول الحمام أملا بعيداً.
عندما ننتقل الي الجانب الآخر من الصورة تتغير الأحوال ، ويري الطبيب أن ما يراه دلعاً من المريض عندما يتخوف و يتألم من تكرار شكة هنا وشكة هناك ، ربما هو أكبر في هذه اللحظة مما يتصوره الفاعل بتكرار فعله..
الإحساس بالرهبة والخوف والألم من فقدان الوعي ، له الوان تختلف تماماً حسب موقعك من اللوحة، بين الرسام والمرسوم.
و في تجربة شاقة ، وجدت نفسي في تجربة معكوسة ، لست فيها الجراح، بل المريض، القَلِق الخائف المتألم ومشرط الجراح يقطع جلدي و عضلاتي ، و بكل ما في ذهني من علم و معرفة بالمضاعفات ونسب الأخطاء المهنية والظرفية ، و مع ثقتي فيمن حولي ، إلا أن هذا الجانب من الصورة علي كل منا، عندما نمر به ،علينا أن نتذكره ، بل ونُعَبّر عنه حتي لا تضييع إنسانيتنا بميكانيكية مهارتنا فلا نري سوي أنفسنا وعلمنا وإحساسنا بقدرتنا كأطباء وننسي أن ذلك ما هو إلا وسيلة لإظهار الرحمة والعون علي الشفاء بإذن الله.
الدورة الثانية من المضاعفات جعلتني أري بعداً ثالثاً ورابعاً لهذه اللوحة. وأنا بين الحياة والموت ، بدا لي أن أينشتاين كان علي حق في نسبية الزمن، الذي ارتبط في نظريته بالحركة شارحاً أن الزمن يتقلص حسب سرعة الحركة التي إن وصلت الي سرعة الضوء يتوقف الزمن.ولكني وفي حالتي وانا بين الوعي واللا وعي لم أحتاج الي الحركة لأكتشف نسبية الزمن، فقد كانت الأحداث حولي تمر ، و الإجراءت الطبية تُتخذ ، وأنتقل من الأشعة المقطعية الي الموجات الصوتية الي محاولات ايجاد طريق الي جهازي الدوري وتركيب أنابيب وتقليب في سرير المرض وذهني يتصور أنه قد مر يوم ، الي أن أكتشف أنها كانت دقائق وان الساعة ما زالت في بداية اليوم….كيف لا يمر الزمن ، وكيف لا تمر الأيام وأنا في حالتي هذه!!!
نسبية الزمن ندركها عندما نقول ان وقت البهجة والسعادة يمر سريعا ووقت الحزن والمعاناة يمر ببطء.
أما الجانب الرابع من اللوحة فقد تكشف لي عند كنت احس أن الأشخاص حولي في العناية المركزة ، في ذهني لهم بعدين فقط وكأنني أعيش في داخل فيلم كرتون، ولا أعود الي البعد الثلاثي الا لما تمسك إبنتي أو ابني أو زوجتي أو أختي يداي أو تُمَلس واحدة من حفيداتي علي رأسي أو يحتضنوا ساقي ، وكأن التواصل الجسدي يعود بي من عالم يخلقه ذهني من بعدين الي واقع ثلاثي الأبعاد تعود به لمسة يد أو حضن الي الواقع الحياتي.
نسبية الزمن الحياتية، ورؤيتي من عالم اللاوعي الي ثنائية وثلاثية أبعاد الحياة حولي كانت تجربة غريبة وعجيبة لم أمر بها من قبل..
العجيب أيضا هي الحياة وأنا مغمض العينين ، ولست نائما، فمن أقابلهم وأتكلم معهم في هذه اللحظات يختفون تماما بمجرد فتح عيناي لأجد نفسي وحيداً بين الأسلاك والأنابيب وأن كل الأحداث التي تدور في ذهني كلها تخيلات يخلقها العقل عندما يغيب الوعي.
الوعي هو حالة عقليّة يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق الّتي تجري من حولنا، وذلك عن طريق اتّصال الإنسان مع المحيط الّذي يعيش فيه واحتكاكه به فيتاح له إدراكه .
إن الوعي ينضج بإدراك كل ما حول الإنسان من موجودات من خلال منافذ الوعي التي تتمثل في حواسه التي تنقل الي ذهنه ذلك فيُترجمها ويُركبها ويُدرك، فإذا لعب المرض والعقاقير في قدرة استخدام منافذ الوعي لدي الإنسان يختل الوعي ويصبح أوهاماً وصوراً وأفلاماً في العقل بلا إرتباط بالواقع.. وعند عودة الوعي قد يحاسب الإنسان غيرة علي قول أو فعل دار في خيالة وهو خارج الوعي بدون إدراك أن لا علاقة له بالواقع وأنه لم يحدث..
العقل البشري بإمكانياته الجبارة في الإبداع والإبتكار هو أيضا بوتقة ممكن أن تسيطر عليها الأوهام
أعود الي ما أود نقله من تجربتي المريرة الي الآخرين، فلا هناك قيمة للحياة بدون المحبة والمودة ، ووجود الأسرة والأصدقاء ، والمشاعر الصادقة بلا ضغوط وبلا إنتظار لمردود….
لقد رصد تلفوني الذي لم أكن أراه و مكتبي واسرتي الكثير من التمنيات والدعوات وأعتقد ان التأثير الجمعي لدعاء صادق من الأحبة كان له تأثيراً علي مروري من هذه الأزمة بسلام، مما يأخذني الي البعد الخامس الإيجابي لتجربتي.
أنا رجل چيناتي متفائلة وأعلم ان الطاقة الايجابية تصنع فعلًا ، وفي هذه المحنة وجدتني الجأ الي الإيمان والدعاء الي الله أن ينقذني من محنتي ، ويساعدني أن أتخطي آلامي..
إن إحتياجنا الي الله مهم ، وهو إحتياج إنساني وجداني جميل ومريح،. وجدتني أدعو ربي وأنا علي شفا الوقوع في” الثقب الأسود ” قائلاً:
أدعوك يارب الأكوان كلها ، أن تعفيني من آلامي وأن تقوي أسرتي وأحبائي ليتحملوا معاناتي. يا رب الجمال والكمال ساعدني ونَور طريقي لأمر من هذه المحنة بأي نهاية تختارها لي بيسر.
الحياةُ في عرف الناس نقيض الموت،لذلك فعندما أحسست بتسرب الحياة من جسدي وجدتني أفكر في الموت، ولكني لم أستطيع الإفصاح لعائلتي حتي لا أرعبهم وأخيفهم.
ولأن الحياة عندي ، لها مفهوم جمعي وتراكمي ، ورغم أنها تخص كل إنسان بذاته إلا أن مجموع البشر يؤثر في بعضه البعض ، والإنجازات البشرية تتراكم وتُنقل من جيل الي آخر مما يجعل لكل مخلوق أثرآً فيمن يآتي بعدة. فالحياة ليست تجربة شخصية بل تجربة جمعية لها أثر تراكمي.
ظل ذهني فيما بين الوعي واللاوعي يفكر فيما تركت خلفي من إرث علمي وثقافي وإجتماعي ومن أَثَر علي عائلتي وتلاميذي ومجتمعي!!
ورفرف ذهني قائلاً لي :إن للإنسان حيوات متعددة، ماقبل خلقه وتكوينه، تنتهي بولادته، ليخرج لحياة يتكو ن فيها وعيه وإدراكه ، وهي الحياة التي نعيشها. في هذه الحياة التي تبدأ بتكوين جسده ومعها نفسه ، ووجودهما مرتبط بروحه ، والتي تنتهي بخروج الروح وعودتها الي بارءها ، فيسقط الجسد وتموت النفس. أي أن مكون الحياة التي نعيشها : روحا ، لا نعرف كنهها ؛ ونفسا تحيا وتموت ، وجسد وعقل يستوعبهما.
هنا أدركت عبقرية الطب الذي إحتفظ بالجسد سليما معافياً لمدة 52 يوم ، يتلقي غذاءه بالأنابيب ومحفوظ من الجراثيم الفتاكة في إنتظار إرادة إلهيه بعودة الروح وإفاقة النفس اليه ليجدا الجسد حياً ومستعداً لممارسة الحياة مرة أخري.
بعد الحياة لا يتبقي من الإنسان إلا نتائج عمله وذكراه في وعي من عاشوا معه أو تأثروا بوجوده فعلاً وفكراً .
كل ذلك كان يدور في ذهني، والدرس هنا أنه مهما آمنا بالعقل ، والعلم ، والمعرفة ، يتبقي راحة الإيمان بالله ، وبالطاقة الايجابية الجمعية لدعاء الأحباء ، فشكرا ًوامتناناً لكل من دعا لي وتمني شفائي.

التعليقات

التعليقات