” سلسلة الجرأة علي التفكير “
بين التطور والثبات والإفاقة والسُبات
بقلم حسام بدراوي
شاهدت حواراً حول نظرية التطور والمفهوم الديني الثابت عبر التاريخ ، والخلط بين تفسيرات الكتب السماوية في زمن ماضي ، وبين التفسير العقلاني لجُملها ومفرداتها بعدما فتح الله علي عقولنا بالمعرفة و الجرأة علي التفكير.
المقصود من هذا الحوار أن الفت النظر الي أهمية أن نفهم أن تفسير ما أنزله الله يتغير عبر الزمن بتطور نضوج جمعي لعقل الإنسان وإلا ما كان القرآن يصلح لكل زمان. ما كان يستوعبه العقل الانساني منذ أكثر من الف سنة غير ما نستوعبه الآن بل وأزيد أن ما كان يستوعبه العقل البشر من مائة عام فقط لا يقارن بما يستوعبه اليوم.
دورة الحضارة التي كانت ملايين السنين أصبحت آلاف السنين بعد معرفة الزراعة و أصبحت مئات السنين بعد الثورة الصناعية وتطورت إلي عشرات السنين بعد التكنولوچيا وأضحت الآن من سنتين إلي ثلاثة بدخول عصر الذكاء الإصطناعي وتقدم المعرفة الرقمية. .
أجدادنا كانوا يولدون ويموتون قي دورة واحدة من حياة البشر وعشنا نحن أربع دورات حياة في السبعين عاماً الماضية وسيعيش أولادنا وأحفادنا بمتوسط عمر ثمانين عاماً أكثر من أربعين دورة حياة تتغير فيها أحوال المعيشة ويتطور العلم بشكل غير مسبوق قد لا يستوعبه حتي الخيال.
أتصور أن الإدراك الذاتي بالعقل هي قدرة الإنسان وأعظم ما يميزه بها عن باقي خلقه فالعقل والتفكير هي معجزة الخلق فينا ، وأعتقد أن الدين وبالذات الاسلامي يحرضنا علي إعمال العقل والتفكير والبحث والعلم ..
عندما أطلق ” دارون” فرضيته بتطور المخلوقات عبر بلايين السنين ، ارتطمت النظرية العلمية بمعتقدات رجال الدين المسيحي واليهودي بفهمهم الذي ارتبط بتفسيراتهم لمحتوي كتبهم الدينية في وقتها ، وكذلك المسلمين الذين ساروا علي نفس المنهج. نفس حائط تكذيب أن الأرض ليست مركز الكون ، أو أننا كوكب يدور حول الشمس، وغيره من الإثباتات العلمية ..
التفسيرات إنسانية وليست مقدسة ، ولابد للبشرية أن تنضج وتعتبر تراكم المعارف في فهمها ولا تقف عند مرحلة طفولة العقل الجمعي للبشر وهو تفسير أجداد أجدادنا لمحتوي الكتب الإلهية. .
السؤال الديني الفلسفي العلمي هل بداية الخلق الذي ترمز له الأديان باسم العَلَم ” آدم “* خُلق كما نراه الآن خلقاً كاملا ، يعني أمسك الخالق قطعة طين ثم عجنها في يده ونفخ فيها فإذا بها آدم!! هذا ما يقولة المتشددون المتمسكون بتفسير القدماء ، ” أن آدم خلق علي هيئته” ،ويؤكدون أن نظرية التطور تخالف الكتب السماوية قولاً واحداً ، فلا مجال للنقاش، ولا يمكن تصديق أن الإنسان نتاج لتطور من الحيوان الأدني مرتبة …
أنا طبعاً أري العلم ومقتنع بمنهجه ولكني ، وبمساعدة من آخرين حاولت أن أجد من أين أتي هذا اليقين لدي علماء الدين ، وبالرجوع إلى العقل وجدت أن حجتهم تتناقض حتي مع ما جاء في القرآن الذي يؤكد أن الإنسان لم يُخلق بدون تطور ، وأتعجب من الوضوح الذي تجنبه المفسرين عبر التاريخ .
فالقرآن يروي قصة مختلفة تماماً عن خلق الإنسان ، قصة يتم فيها الخلق على مراحل وأطوار وزمن إلهي مديد. فالقرآن يقول إن الإنسان لم يخرج من الطين مباشرة، وإنما خرج من سلالة جاءت من الطين: ”ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين”
وإن الإنسان في البدء لم يكن شيئاً يذكر:
”هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا”
وأن خلقه جاء أطواراً:
”ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً”
معنى ذلك أن هناك مراحل بدأت بالخلق ثم التصوير .. ثم التسوية ثم النفخ .. و”ثم” بالزمن الإلهي معناها ملايين السنين:
”وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون” .
فآدم إذن نهاية سلسلة من الأطوار وليس بدءاً مطلقاً على طريقة خلق مباشر وكأنه في المعتقد البسيط صنع الله تمثالاً
من الطين ثم نفخ فيه فأصبح الانسان الذي هو الآن.
قلت لنفسي: ولماذا إذن هذا الرفض القاطع من مفسري الأديان، وهل يختلف ذلك عن ما يقوله العلم الحديث في نظريات التطور ….؟
في الحقيقة لا.
أما في قصة آدم نفسه ، فلنا أيضا أن نفكر ونعيد صياغة فهمنا. فحسب المعتقد الديني فإنه عندما خلق الله آدم ليسكن الأرض خليفة له وقال للملائكة اسجدوا لمخلوقي ، تساءلوا لماذا يخلق من يفسد فيها ويسفك الدماء وكأنهم رأوا المشهد من قبل . ( هل يمكن أن تكون هناك عوالم وأكوان أخري كما يقول العلم الآن أو أن تكون دورة الخلق تتجدد ، لذلك يصف الملائكة الذين يعيشون في بعد مختلف عن البشر الأمر لأنهم شاهدوه من قبل ) الا أن الله علمه الاسماء وجعل له ميزة العقل والقدرة علي التمييز و الاختيار ليكون مختلفاً عن باقي خلقه، أي أن ميزة الانسان في هذا الزمن وهذا الكون هي قدرته علي التفكير و الاختيار صوابا وخطأً.
وعندما أدخله الجنة هو وحواء ومنع عنهما الأكل من الشجرة المحرمة فقد وضع أمامهم الاغواء والإختيار في مقابل الطاعة.
المهم لما قررا آدم وحواء استخدام حقهما في الاختيار وأكلوا من الشجرة المحرمة ، اكتمل خلقهما فأنزلهما الله الي الأرض كما كان المقصود من خلقهم ابتداءاً.
قيمة الإنسان في قدرته علي الإختيار حتي لو كان غير صحيح.
لو لم يقوما بهذا الاختيار ما نزلا ، وما كان لخلق الانسان أن يكتمل ولا أن يتناسل ويُعمر الأرض.
أي أن نزول آدم وحواء الي الأرض كان اكتمالاً لخلقهم الذي يفرقهم عن باقي المخلوقات التي تتم قراراتها بتوجهات جينية موضوعة في تكوينهم، و لا اختيار لهم كالملائكة ، وليس عقوبة لهما كما تتواتر التفاسير.
الحقيقة أن كثيرٌ من النّاس اليوم لا يرى في رواية التّكوين عن آدم وحوّاء أكثر من قصّةٍ رمزيّةٍ، ويوافق حتي بعضاً من علماء الكاثوليك والبروتستانت واليهود والمسلمين على هذا الرّأي. ورغم أنّ معظم تفسيرات المفسرين حسب زمانهم للأديان لبدء البشريّة يتعارض مع التّاريخ والعلم وهو ما خلق صراعاً بين الفلسفة والعلم والدين عبر العصور فإن زيادة المعرفة قد يفسر الكثير. بالعلم والإثبات .
هذه الدّراسات تثبت أنّ التّنوّع الجينيّ الموجود في الإنسان الحديث قد يكون أكبر من أن يزوّده شخصان فقط،
أن مصدر طاقة بلايين خلايا الجسم الإنساني التي لولاها ما كانت الحياة أساساً منبعثة من الميتوكوندريا(جسيم صغير جداً بجوار نواة كل خلية حية) التي هي مصنع الطاقة للبشر ، وهي تورث من الأم فقط. أي أن المرأة ليست فقط أصل الحياة بل سبب إستمرارها.
أزيد من المعرفة قطرة وأشارككم الذهول، أننا لو اختصرنا تاريخ تكوين الكون المعروف بالسنة الكونية منذ اربعة عشر مليار سنة تقريبا ، فان الانفجار العظيم يكون قد حدث في الثانية الأولي من السنة الكونية و يكون تكوين المجموعة الشمسية والارض قد حدث في سبتمبر ، وبدء ظهور الحياة وحيدة الخليه يكون في اكتوبر وظهور الانسان يكون في الدقيقة الاخيرة من ٣١ ديسمبر ونكون نحن الآن في الثانية الاخيرة هذه الساعة.
ولو قلصنا الكون ودمجناه في لوحة واحدة طولها وعرضها كيلومتر مربع لكانت الارض نقطة لا تراها العين الا بالميكروسكوب ونحن البشر عليها وندّعي أن الكون مخلوق لنا و ملكنا.
فلنغلق أعيننا ونتخيل الزمان والمسافات ونتفهم عظمة الخالق .
واذا تركنا الكون علي سعته وتعمقنا في تكوين جسم الانسان وخلاياه وچيناته وكواركاته ( الكوارك أو الرِكِّين هو جسيم أولي وأحد المكونين الأساسيين للمادة والمكون الآخر حسب هذه النظرية هو الليبتونات) له كتلة ولكن أبعادها متناهية الصغر صفرية، تُرصَد عند حدوث تصادم شديد بين البروتون والإلكترون وهم بذرة بناء المادة و التي هي أصغر بلايين المرات من كل خيال.
لابد لنا اذن من الايمان أن خلافاتنا الإنسانية تافهة رغم ما تُسبب من شرور نابع من غرور لا يتفق مع قيمتنا الكونية.
والغرور من بني الإنسان الذي لم يتواجد إلا من أقل من ثانية واحدة من عمر الأرض ولا يشغل سوي لا شئ من حجم الكون فإذا تجرأ البشر علي التفكير فلابد من التواضع بديلاً عن الزهو والغرور.