كن ..فيكون
بقلم حسام بدراوي
تعلمنا ونحن صغار وحدات القياس وفهمناها ودخلت في عقولنا وشكلت نظرتنا للمسافات و للزمن .
الكيلومتر والمتر و السنتيمتر والملي متر وهي ماكان ذهننا يستوعبه.
كذلك في الأوزان ، الطن والكيلو جرام والجرام وهكذا.
اما في الزمن فكان قياسنا هو الساعة والدقيقة والثانية.
وعندما تحريت الدقة فإن السنة الشمسية مثلاً يتم إحتساب عدد أيامها من خلال دوران الأرض حول الشمس، فالدورة الواحدة تعني إتمام سنة شمسية وتستغرق بالتحديد 365 يوماً و 5 ساعات و 48 دقيقة و 46 ثانية……… أي ما يعادل 365.2435 يوماً.
وعلي الرغم من أن السنة الكبيسة وُجدت كحل لمشكلة التوافق الزمني بين التقويم الميلادي والدورة الفلكية للأرض حول الشمس ، إلا أنها ما زالت حلاً ليس مثالياً ، بالنظر الي أن المبدأ الذي تقوم عليه هذه السنة يعتمد علي إضافة 24 ساعة كاملة كل 4 سنوات ،إلا أن ذلك ما زال يعني أن السنة التقويمية تتجاوز السنة الشمسية بمقدار 11 دقيقة و 14 ثانية..
وينتج عن تراكم هذه المدة الزمنية يوم إضافي جديد بعد 128 سنة تقويمية، ويستتبع ذلك إلغاء السنة الكبيسة مرة واحده كل 400 عام، وهو ما يساعد علي تقليص الفارق الزمني الذي يحدث بمقدار نصف دقيقة لصالح السنة التقويمية، وهو ما يعني أن السنة الشمسية ستتأخر عن السنة التقويمية بمقدار يوم واحد كامل بعد3300 سنة..
ولو لم تُقيد البشرية نفسها بالحساب الدقيق ، وبالتعديلات التصحيحية منذ نحو 750 عاما ،لكان التقويم الميلادي سيتوقف عن التطابق مع المواسم في نهاية المطاف ولجاء الشتاء علي سبيل المثال في يونيو..
وتعرف السنة القمرية بأنها المدة التي يحتاجها القمر ليتم 12 دورة، كل دورة تكون شهراً قمرياً واحداً والسنة القمرية 354 يومًا و 8 ساعة، و 48 دقيقة و 34 ثواني (354.36707 أيام)
نفس الأمر الذي اجراه العلماء مع السنة الشمسية أجروه مع السنة القمرية حتي يتم ضبط السنة وأيامها مع علم الفلك ولكن اسلافنا العرب بعد وفاة الرسول رفضوا احداث التعديلات الحسابية فيها مما جعلها غير متوافقة مع حركة الفصول ، فأصبح شهر ربيع مثلا والذي موعده هو الربيع كما يقول مسماه يأتي مرة في الشتاء ومرة في الصيف.
ولهذا تفصيل دقيق إرتضي المسلمون أن يهملوه ويمنعون حسابه بلا عقل ولا تدبر فاختلت الشهور القمرية واصبح التقويم بلا منفعة للإنسان.
الدقة في الحساب ، والعلم إنتقل من السنين والشهور والأيام ، الي الساعات والدقائق والثواني، والآن تنتقل البشرية الي كسور الثواني في عالم ما هو أصغر من الذرة ومكوناتها ، وتم اكتشاف حقائق تفوق الخيال ولكن لم يتم تقريبها الي الذهن البشري بنفس بساطة مقاييس استوعبها البشر عبر التاريخ.
اكتشف اينشتين علاقة السرعة بالحجم وقال ببساطة ان الزمن نسبي وغير ثابت، وان المادة يقل حجمها بزيادة سرعتها وأنت اذا تحركت بسرعة الضوء ( وهي أقصي سرعة ممكنه) ينعدم وجود المادة الكمي.
وأعود الي الي قياس الزمن الذي بدأته علي مستوي حركة الأرض والشمس والكواكب، وأنفذ الي عالم الكاونتم وحركة جسيمات ما داخل الذرة.
كلنا يعرف الثانية ولكن أغلبنا لا يستوعب وحدة زمن أقل من الثانية؟؟؟
نعم
لقد عرف الإنسان كل ذلك من خلال خياله وما إخترعه من أدوات تراقب حركة الكواكب والنجوم ، ونمو المعرفة بالحساب و الرياضيات..
إذن يحتاج الأمر تحقيق وجود الأشياء بالنظر إليها ثم بمراقبة حركتها ، مما يستدعي قياس زمني لسرعتها بالنسبة الي بعض..
وبالإنتقال الي دراسة الذرة ومكوناتها ، كان لابد لتأكيد النظريات الرؤية وقياس الزمن والسرعات علي مستوي لم يخطر علي بال البشر سابقاً
ولو علم من حكموا علي جاليليو بالموت لمجرد أنه قال أن الأرض ليست مركز الكون وأنها تدور حول الشمس ، لو قيل لهم ما نعلمه الآن من حركة الإلكترونات والبروتونات حول نواة الذرة ، وقدرتنا علي قياس سرعتها بل وتصويرها، لإعتبروا القائلين مجانين بالإضافة الي تكفيرهم..
العمل البحثي الذي قام به د. زويل منذ اكثر من عشرين سنة ، استطاع من خلاله تصوير حركات جزيئات المواد داخل الذرة وهي تتحرك (لا يوجد في الكون كله سكون ) إحتاج الي قياس ما صار يعرف بالفمتو ثانية، وأصبحت الكاميرا التي تصور هذ تعرف بكاميرة الفمتو ثانية.
ولكي اقرب الأمر الي الذهن كما قرأت ثم شرح لي صديقي د. احمد الجيوشي ببساطة ، فتعالوا نتخيل
اننا نريد تصوير فيل لا يتحرك في حديقة الحيوان….فسيحتاج ذلك الي كاميرا عادية تفتح عدستها وتغلق لالتقاط الصورة كما هو معتاد. الفيل لا يتحرك أو حركته بطيئة جدا ابطأ من سرعة فتح وغلق عدسة الكاميرا اثناء التقاط الصورة لذة تظهر صورته .
اما اذا كان المطلوب تصوير فأر يجري بسرعة وليس فيلا ساكنا، فهنا لابد ان يتوفر أمرين: اولا لابد ان تعمل زووم لكي تستطيع تصوير الفأر بحجمه الصغير ولابد ان تكون سرعة التقاط الصورة اسرع من سرعة الفأر وهو يجري.
كلام سهل ومنطقي ..
زويل وفريقه اخترعوا كاميرا يمكنها أن تعمل زووم لكي تستطيع تصوير ما لا يشغل من الفراغ سوي جزء واحد من مليار جزء من المتر أو ما يساوي جزء من مليون جزء من المليمتر وهو ما أصبح يسمي نانومتر.
مرة أخري أذكر القارئ الي قياس المسافات الذي تطور في الذهن ، الي أن وصل أجزاء المليمتر..الي النانومتر وهو جزء من مليون جزء من المليمتر..وازداد العلم فعرفنا أن النانومتر مقسم الي بيكومترات وهو مقياس أصغر ألف مرة من النانومتر.
ولكن هذا الذي يتم تصويره يتحرك داخل الذرة فلابد لعدسة الكاميرا لكي تلتقطه ان تفتح وتغلق بسرعة حركة ما يتم تصويره، وهو ما أصبح يسمي فيمتو ثانية والا فإن هذا الشئ سيمر أمام الكاميرا ولا تلتقطه.
جاء الآن عالم آخر مصري أيضا (في جامعة أمريكية أيضا ) ، وفريق آخر من الباحثين ونزل بزووم الكاميرا ١٠٠٠ مرة أقرب من زووم كاميرة زويل وبالتالي يستطيع رؤية الالكترون داخل الذرة ، ولأن الالكترون يتحرك داخل الذرة بسرعة الضوء تقريباً ، فلكي يستطيع تصوير حركة الالكترون فلابد من تفتح وتغلق عدسة الكاميرا في زمن أقل من الفيمتو ثانية.
( سرعة الالكترون تعادل سرعة الضوء أو ٣٠٠ بيكو متر في الأتو ثانيه الواحدة) والأتو ثانية هي وحدة زمن تعادل ١ وامامه ١٨ صفر ..
يعني لو قسمنا الثانية (التي نعرفها ) الي ١ وامامه ١٨ صفر جزء ، فالأتو ثانيه تعادل جزء واحد.
كل ذلك يحدث داخل الذرات في دائرة قطرها ١ بيكومتر الذي هو أصغر من النانو متر الف مرة يعني ما يعادل جزء من تريليون ( مليون مليون) جزء من المتر الذي يستوعب طوله ذهننا.
وبالتالي فإن الالكترون يقطع مسافة البيكومتر في زمن يقل الف مرة عن الفيمتو ثانية وهو الأتوثانية وبالتالي فلابد للكاميرا التي اخترعها د. محمد حسن وفريقه أن تكون سرعتها أسرع ١٠٠٠ مرة من سرعة كاميرة زويل ، يعني سرعتها تكون أسرع من زمن الأتوثانية اللي هي تعادل ١ علي مليار مليار من الثانية الواحدة.
ثم في عام 2016 نجحت مجموعة من العلماء في قياس أقصر وحدة زمنية على الإطلاق، وذلك بقياس مقدار الوقت الذي يستغرقه جسيم لعبور جزيء الهيدروجين ، ويُطلق على الوحدة اسم ”زيبتوثانية” وهو جزء من تريليون جزء من المليار من الثانية، أي علامة عشرية متبوعة بـ 20 صفراً وواحد.
إن الوقت الذي تستغرقه الروابط الكيميائية في الانكسار والتشكل يُقاس بالفيمتو ثانية، ولكن زيبتو ثانية هو القياس المستخدم لقياس الضوء أثناء انتقاله عبر جزيء هيدروجين واحد.
وتوصل الفيزيائي ”ريتشارد دورنر” وفريقه من جامعة جوته في ألمانيا، من خلال استخدام كاشف جسيمات حساس للغاية يمكنه تسجيل تفاعلات ذرية وجزيئية سريعة للغاية، إلى أن 247 زبتوثانية هو الوقت الذي يستغرقه الضوء للانتقال داخل جزيء الهيدروجين.
لكي نستوعب ذلك لابد لنا من الخيال ، ولابد ان نتصور أيضا أن هناك وحدة لتركيب الكون أي الطوبة الرئيسية لبناء المادة ، أي مادة ،وهي ما يسمي بالكوارك.
ميكانيكا الكم تبحث في عالم الظواهر فائقة الصغر وفائقة السرعة ، و هي مجموعة من النظريات الفيزيائية تفسر الظواهر على مستوى الذرة والجسيمات دون الذرية وقد دمجت بين الخاصية الجسيمية والخاصية الموجية ليظهر مصطلح ازدواجية الموجة -الجسيم.
العلم واالفيزياء الكلاسيكية لهم دلائل معلومة هَدَمها إكتشاف فيزياء الكوانتم. كل مصادر الاستدلال العقلية ، ومبدأ السببية، أي أن لكل حَدث ، مُحدث وعدم التناقض في العلم تسقطه دراسة فيزياء الكم وتلغي كل المبادئ التي أقرها العلم .
إن المضمون الفكري لما يحدث علي مستوي الإلكترون البروتون والكواركات يتحدي المألوف ويثير القلق في الأذهان.
ثبت أن كل جسيم داخل الذرة هو جسيم وموجة في نفس الوقت مما عُرف بازدواج الوجود.
الكل يشترك في الأصل…وما الإنسان الا جرم صغير، وفيه ينطوي العالم الأكبر.
الإنسان هو الكتاب الجامع لكل موجودات الخلق، ففيه الجسد والروح، المادة والطاقة، الحياة والموت ، الديمومة والزمان….كله في وقت واحد.
الإنسان يجمع كل التناقضات سويا ، هو المعجزة الكونية الكبري.
إن نظريات الفيزياء الكميه وما تعنيه، رغم أنها ما تزال قاصرة عن تفسير الوعي والروح والنفس ، لكنها تعني أن العلم قادم قادم ليفتح آفاق جديدة للمعرفة ولا يجعل الإنسان أكثر غرورا بنفسه ولكن يدفعه ليكون أكثر تواضعا.
والمذهل ان وحدة البناء للمادة تتواجد احيانا كطاقة واحيانا كمادة وهو الأمر المدهش، فنحن والارض والقمر والشمس وكل الكون نتواجد ولا نتواجد .
في الأصل المادة هي طاقة تتواجد بالشكل الذي تراه حواسنا حسب ذبذبات هذه الكواركات ، فكأن الكون والخلق كله ذبذبات للطاقة .
ولكي أقرب فهمي غير المحترف للقارئ ، فتخيل أن حروف اللغة ٢٨ حرف ولكن يمكن ان ينتج منها كل هذا المكتوب من الشعر والأدب عبر التاريخ …..وكل الموسيقي بكل اشكالها ونغماتهما تنتج من سلم موسيقي بسيط، وكل مادة الكون تنتج من ذبذبات الكواركات وكأن الله عز وجل يعزف سيمفونية بتحريكه هذه الذبذبات كيفما أراد.
إذا فإن فهمي البسيط لجملة ” كن فيكون” أصبح واضحاً في الذهن لقدرة الخالق علي تغيير النغمة عندما يريد.