الجمعة , 29 نوفمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / علي مقهي الحالمون بالغد “مستقبل التعليم بين الهدف والوسيلة” حسام بدراوي

علي مقهي الحالمون بالغد “مستقبل التعليم بين الهدف والوسيلة” حسام بدراوي

علي مقهي “الحالمون بالغد”
مستقبل التعليم بين الهدف والوسيلة
(ممتدة)
بقلم وريشة حسام بدراوي
كتبت منذ أسابيع مقالاً بعنوان اختلاف المعاني وخصام التعريفات، ودُعيت منذ أيام لحوار حول مستقبل التعليم في مصر ، ووجدتني أعود لاحتمال إختلاف معاني الكلمات في ذهن السائل والمُسَائَل وقررت التدقيق والإتفاق أولاً حول التعريف والمعني قبل الخوض في موضوع مستقبل التعليم.
وحيث أن كل المجتمع يتكلم عن التعليم ، ويعاني منه ويأمل فيه ، والجميع غرقي في تفصيلاته،فرأيت أولاً أن أُعّرف مقاصدي ، وثانياً أن أربط المستقبل بالحاضر والماضي .
هناك خلط بين مفهوم التعلم والمعرفة وبين التعليم ، بين الهدف والوسيلة ، فالتعليم المدرسي والجامعي وسيلتنا للتعلم والحصول علي المعرفة ، واكتساب المهارات ، ولا يصح أن نخلط بين الأمرين ولا أن نتناسي احتياج الهدف للوسيلة.
تعالوا معي لرحلة مختصرة عن تاريخ المدرسة وكيف بدأت بادئ ذي بدء ، وكيف تطورت ، لنعرف الي أين يقودنا الحوار.
قرأت كتاباً عن أعظم الشخصيات التي أَثّرت في واقع البشرية فلم أجد في الغالبية العظمي منهم من كان تلميذاً في مدرسة بمفهومها الحالي.. فلا علي بن أبي طالب بحكمته، ولا بوذا و ولا كونفوشيوس ، ولا الفارابي ولا ابن سينا ولا أبقراط ، ولا نيوتن صاحب نظرية الجاذبية ولا تساي لون مخترع الورق وقبله المصري الذي كتب علي أوراق البردي، ولا مهندسي المعابد والأهرامات ، ولا من اخترعوا التقويم ، وآلات الزراعة ،ولا أغلب من بدؤا الثورة الصناعية ،ولا جوتنبرج مخترع المطبعة، ولا ليونارد دافنشي ولا شكسبير ، وأضيف اليهم قادة الجيوش ومن حكموا العالم مثل يوليوس قيصر و الاسكندر الأكبر وأمثالهم ، وقبلهم كل الخلفاء الراشدين ، وبعدهم من حكموا العالم شرقاً وغرباً ومن غزوا وأسسوا إمبراطوريات.. ومن كانوا أساساً للفلسفة مثل أرسطو وأفلاطون و ابن رشد وابن خلدون وغيرهم ، كلهم لم يدخلوا مدرسة نظامية بمفهومنا ، والتي هي الشكل والوسيلة التي ظهرت في القرن الثامن عشر فقط بهدف تعليم الدين واعداد الجيوش.
نعم ، الهدف الأساسي للمدرسة كان الدعوة للدين بمفهوم رجاله والطاعة والمهارة الحربية بمفهوم الغزو والسلطة للحكام.
إذن المدرسة بمفهومها النظامي كان ، وللأسف ما زال، هو إخراج مجموعات البشر الذين يؤمنون بأفكار من وضع لهم نظامهم ، وأن ينجحوا إذا وافقوا علي الإجابة المحددة وأن يرسبوا إذا خالفوها. هناك صح واحد والباقي خطأ، هناك إختبار يقيس مدي توافق التلميذ مع الإجابة المحددة ، مع أن كل من صنع قفزات التاريخ هم من خرجوا عن المعتاد ، وفكروا خارج الصندوق والنمطية ، ورفعوا سقف خيالهم الي أبعد مما قرر جيل سابق لهم..
يقول أينشتين ، العالم الفذ أنه كان يتعلم الي أن دخل المدرسة ، ويقول “التعليم ليس هو تعلم الحقائق، إنما هو تدريب العقل علي التفكير، و لا يمكننا حل مشكلة باستخدام نفس العقلية التي أنشأتها.”
لو نظرنا الي مدارسنا اليوم بمنطق براجماتي عملي ، فلابد لنا من وقفة جادة ..
المدرسة ونظامنا التعليمي مجرد وسيلة وليست الهدف في حد ذاتها…
ماذا نريد من أطفالنا وشبابنا في المستقبل؟؟ وكيف نُحدث نقلة نوعية في أسلوب التعلم ، وليس اتباع نفس الوسائل التي أنتجت ما نشكو منه الآن…
سأعطيكم مثلاً عملياً:
عندك مصنع ، وفيه خطوط إنتاج ، يخرج منها منتجات، بجودة عالية ، هدفها أن يكون عليها طلب في السوق المحلي والتصدير العالمي…
فإذا أتيت بأفضل الآلات ،وأنشأت خطوط إنتاج ، ووظفت ملايين العمال غير الأكفاء ، وأنتجت ببطء ، مُنتج لا يحتاجه السوق ، بجودة متدنية وخسرت رأسمالك ، ومواردك الخام رغم امتيازها ، ولم تستطيع الاستفادة من مخرجات هذا المصنع ، لأن السوق لا يريده فأنت خاسر و ستفلس لا محالة..
المدارس في مصر هي مصانعك لإنتاج البشر الكفء المنافس الذي يرفع قيمة وطنك، فإذا إستمر المصنع في العمل بنفس الطريقة ، فستحصل علي نفس الخسارة سنة بعد سنة وجيل بعد جيل..
القليل من الصبر معي علي فهم النظرية ……
موادك الخام ، وهم أطفالنا وشبابنا هم في الحقيقة من أجود الأنواع و مماثلين لأقرانهم في بلاد العالم ، و أستطيع إثبات ذلك تاريخياً وحاضراً… ولكننا قررنا عبر الخمسين سنه الماضية تكراراً ، أن تكون مدارسنا و مُدَرسينا ومسئولي التعليم وهم قوتنا البشرية في ادارة مواردنا هم الأقل كفاءة و الأدني أجراً (طبعاً يوجد طفرات واستثناءات) وأصبحت خطوط إنتاج مصانعنا( أقصد ِمدارسنا) هي الأقل كفاءة ،أولادنا وشبابنا وهم مواردنا الخام العظيمة تدخل خطوط انتاج لمدة 18 عاماً متتالية وتخرج غير قادرة علي الإبداع و المنافسة ، ولا تتحلي بالمهارات والقيم اللازمة لذلك ولا يحتاجها السوق، ومع ذلك نصر نحن علي استكمال العمل بنفس الطريقة ونفس الأسلوب !!!!..
هل هناك غباء وضبابية رؤية مثل هذا!!
المصنع يخسر ، ومهما جددت آلياته ، وغيرت آلياته بهدف إنتاج نفس المنتج ، وأنفقت مليارات علي تكرار بناء مصانع مشابهة فستحصل علي نفس النتيجة، بل تتضاعف الخسارة.
مثل آخر : فالتتصور أنك تريد الذهاب الي الإسكندرية واخترت أن تركب القطار أو السيارة المتجهة الي أسوان، فمهما جددت في السيارة وغيرت السائق ووسعت الطريق واعدت رصفه عشر مرات ، ففي النهاية أنت ذاهب الي حيث لا تقصد.. ستصل أسوان وليس الإسكندرية..
فهل حققت غرضك؟؟
هل وصلت الي مبتغاك؟؟
هل مباهاتك بالإنفاق والجهد والعرق في الوسيلة أوصلتك الي ما تريد؟؟؟
القضية يا سادة ليست في المدرسة فقط لأنها وسيلة ، هي مصنع للتعلم والحصول علي مهارات ومعرفة يحتاجها الحاضر والمستقبل وأرانا لا نسعي لتحقيق الهدف بل
أصبحنا ، كمسئولين وأولياء أمور غرقي في الخلاف حول هوامش الوسائل ، ، بنفس المنهجية عاماً بعد عام.
السؤال هو ، ما هي النقلة النوعية ( paradiem shift) التي نحتاجها للوصول لهدف التعلم والحصول علي المعرفة و الإستعداد للمستقبل… فالهدف يحتاج تحديد .
إن أهم المهارات التي يجب أن تحظي بالتركيز حالياً هي: مهارات التواصل والاتصال ، والقدرة على التكيف مع التغيير ، و القدره علي العمل الجماعي، يضاف اليهم، مهارات القيادة التي تحتاجها الكثير من الوظائف علي مستويات متعددة..بالإضافة الي المهارات الرقمية و استخدام الحاسب الآلي،والذكاء الاصطناعي ومعرفة لغة ثانية أو أكثر بجانب اللغة العربية.
كل ذلك يجب أن يُغلفه قيم الدقة والإتقان والنزاهة واحترام المختلف، ورفع سقف الخيال والإبداع.. وهذا لا يتأتي بالمنهج ولكن بالمعايشة داخل المؤسسة التعليمية.
، هذه المهارات يحتاجها الطبيب والمهندس و المحامى والضابط والمدرس والعامل في كافة التخصصات، فلا مكان في العمل اليوم وقطعاً في المستقبل لمن لا يملكها.
الرحلة للمستقبل تبدأ بوضوح الهدف و بالإستراتيجية ،
ولتكن إستراتيجيتنا هي تحقيق حجم حرج من النجاح بإصلاح رأسي شامل لتحقيق الهدف. وليكن حجمنا الحرج عددي ونوعي وجغرافي..
ويمكن إتباع نموزج إختيار الحجم الحرج الفعال ،�بتحديد عدد من المدارس من كل محافظة، أو كل مدراس محافظة ما وقد فعلت مصر ذلك في مدارس أسمتها المدارس التجريبية ، تحولت من تجربة الي المدارس الحكومية للغات ولكنها تجربة رغم نجاحها النسبي لم تكن متكاملة الإصلاح الرأسي بمفهوم المستقبل ، نوعياً وإدارياً وتكنولوچياً ولكنها كانت تجربة محترمة.
وأقترح مدارس محافظات محور قناة السويس ، والفيوم ، وقنا والأقصر مثلا.. وخلال ٥ سنوات يتغير فيهم التعليم مطلقاً ، بمعايير قياس ومتابعة دورية بعد إعداد مسبق خارج صندوق المعتاد لعملية جراحية معروفة الخطوات..يراها المجتمع وتكون نموذجاً يمكن تكراره .
لماذا أتكلم عن تحقيق النجاح في حجم حرج لأن التجارب تقول أن عمليات اصلاح التعليم كوسيلة تفشل إذا اعتمدت على التحرك بشكل واسع عرضي في المجتمعات كثيفة السكان في نفس الوقت، باستخدام نفس الوسائل ومع ذلك، لا ينبغي تجاهل باقي النظام .
هناك سبع أولويات واجبة لنجاح هذا الأمر:
١- أولوية وضع موازنات مالية وإتاحتها لتحقيق الهدف بلا تنازل .�٢- اعلان إطار زمني والالتزام به.�٣- إختيار مدقق لنوعية المديرين والمعلمين من خلال مسابقات دولية المعايير ، وتحديد مرتبات ذات سقف عالٍ جداً لهم في إطار جاد وحاد لالتزاماتهم تجاه التجربة ، مع تدريب مستمر ورفع مستواهم الأكاديمي والاجتماعي. �٤- تطبيق حازم لضمان الجودة الاعتماد والعمل على تنفيذها،�٥- استخدام مناهج دراسية في اللغات والعلوم والرياضيات والتكنولوجيا والذكاء الإصطناعي تخاطب المستقبل.
٦ـ إتاحة معايشة للطلاب داخل هذه المدارس ، فيها ممارسات رياضية تنافسية وتدريب علي أنواع الفنون المختلفة ، والرحلات داخل وخارج مصر للتعرف علي تاريخ بلادهم وثقافتها عبر الزمن ، كجزء أساسي من منهج الدراسة، مع العناية الإجتماعية لأسرهم .�٧- الحماية التشريعية لمرحلة الاصلاح التي ستتمتع بها التجربة.
أما بخصوص الجامعات ومنح الشهادات ، فالجامعات بشكلها التقليدي عليها أن تتغير ، وسنوات الدراسة فيها يجب تتطور زيادة ونقصان حسب التخصص لأن سوق العمل يسبقها في التطوير والإبتكار وإلا ستفقد وظيفتها في صنع المستقبل.
أن التعليم العالي لا ينبغي أن نفكر فيه كرد فعل لحالة سوق العمل الحالي، أو نسب البطالة أو حال مهنة من المهن في لحظة زمنية بعينها..إلا أنه عليه أن يظل هذا النوع من التعليم الذي يرسم ملامح المستقبل، ويبنى البشر القادرين على صنع التنمية وليس ملء فراغ الاحتياجات فقط.. يبنى الإنسان صانع الفرصة ومحققها وليس فقط المستفيد منها. يؤهل الشباب ويبني الشخصية السوية التي تحترم الإختلاف وتبتعد عن التطرف.
إن السؤال الأهم هو ماذا نعتبر الجامعات ، بناة حضارة أم مقدمي خدمات تعليمية وتدريبية، لأن ذلك سيخلق الفارق في نظرتنا الي هذه المؤسسات.
تحتاج مؤسسة الجامعة إلى معرفة أسباب التغير أو أسباب التمسك بالتقاليد. ولكي يتسنى لها القيام بهذا عليها أن تتشكك في ما تم اكتسابه وتختبر أيضاً أنماط التفكير المختلفة الموجودة في المجتمع. كما أن على الجامعة أن تقوم بالمخاطرة بتقديم كل ما هو غير متوقع للمجتمعات التي تستسهل بقاء الأمر كما هو عليه بل وتحارب التجديد والتغيير حفاظا على الواقع الذي تم التعود عليه حتى ولو كان منتقداً.
إن الجامعات تجسد عمليات التغيير في أي مجتمع ولكنها تلهث الآن وراء الصناعات والتكنولوجيا الواردة من سوق العمل وليس العكس!
الأصل في الجامعة هو ابتكار الجديد واستيعابه، ونقل وصنع المعرفة، وتحقيق التناغم والتكيف ما بين المعرفة وكيفية الحصول عليها واستخدامها في وقتنا الحاضر، ومتطلبات المستقبل. وبناءً على هذا فإن دور المؤسسات الأكاديمية يتأكد في البحث والتدريس والبحث والتدقيق وتقديم العون لكل الأنشطة على أساس قدرتها على المعارضة (البعد الإنتقادي) والموافقة (الحاجة إلى الالتزام)
وبدون البعد الأكاديمي البحثي والقيم الإنسانية للمجتمع البحثي فإن التقدم الذي ننشده قد ينقلب الي فوضي…بإيجاز شديد، أننا نواجه بلا شك تغيرات سريعة جدا في وسط عالم به طفرات اقتصادية , واجتماعية , وثقافية , وعلمية وتكنولوجية. فالتحدي الذي يواجه النظم التعليمية كبير ،وإذا كان معدل التغيير داخل أي مؤسسة تعليمية أبطأ من معدل التغيير الحاصل خارجها فلننتظر عندئذ نهايتها في المدى المنظور..
النظام التعليمي الذي يتجاهل المستجدات والتغييرات التي تشكل الغد ينهي بذلك علاقته أو ارتباطه بحياة الطلاب و سيضمحل شيئا فشيئا، ولهذا يجب إعادة صياغة مؤسساتنا التعليمية منذ ما قبل المدرسة إلى الجامعة لنعد طلابنا الإعداد المناسب للمستقبل وليس للماضي.
يا شباب ، كل ما يتخيله العقل سيحدث، وإلا ما خطر علي البال.. المهم كيف نشارك في صنع المستقبل و لا نظل جالسين في مقاعد المتفرجين نصفق أحيانا ، وننتقد أحياناً أكثر؟؟ ، كيف ونحن نشارك نحتفظ بمكارم الأخلاق وقيم مجتمعية نعلنها ونلتزم بها أثناء بناءه ، بلا تعالي علي غيرنا ، ولا عنف ولا تمييز ولا كراهية ، ولا تكفير ، بانفتاح عقل ، و بالبحث عن البراهين ، واحترام الاختلاف وتعددية الفكر .
May be an image of 1 person and text

التعليقات

التعليقات