علي مقهي” الحالمون بالغد”
وعي عرائس المسرح
حسام بدراوي
“من أين أبدأ” هو حوار مع الذات قد يدفع كل من يقرأ هذا المقال ليعود إلى نفسه ليعرفها أكثرَ، ويضع نقاطًا فوق حروف؛ فتَّتِضح معانٍ، وترتسم لوحةٌ أكثر تَكامُلًا؛ فلا شيء يأتي من لا شيء، وكلُّ حَدَثٍ في تاريخنا منذ النشأة له بصمَة على “مَن أنتَ؟”، و”لماذا أنتَ من أنت؟” وكيف خُلق وعيك بمجتمعك الصغير والكبير ، أو وعيك بكوكبك أو الكون أو الأكوان الموازية إذا إتسعت مجالات معرفتك …
أنت مجموعة من القيم والأفكار والممارسات التي تترجمهم كينونتك والمجتمع المحيط بك الي صورة ذهنية لك.
يعتبر الوعي حالة عقليّة يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق الّتي تجري من حولنا، وذلك عن طريق اتّصال الإنسان مع المحيط الّذي يعيش فيه، واحتكاكه به. والوعي ينضج تدريجياً بإدراك كل ما حول الإنسان من موجودات من خلال منافذ الوعي التي تتمثل في حواسه التي تُنقل الي ذهنه فيُترجمها ويُركبها ويُدرك.
والوعي قد يكون جزئياً، وذلك عندما تكون الأفكار والمفاهيم مقتصرة على جانب أو ناحية معينة وغير شاملة لكل النواحي والجوانب والمستويات المترابطة والتي تتأثر و تؤثر في بعضها البعض في عملية تطور الحياة.
ووعي كل منا يرسم حاضره ومستقبله ووعينا الجمعي قد يفعل نفس الشئ لكل البشرية ..
أنا مثلا أعي أهمية وأولوية التعليم والمعرفة والرعاية الصحية للمواطنين ..و بمرور الزمن وتراكم الخبرات والتعمق ، أعدت تعريفها كحقوق وليست خدمات ، فتغيرت نظرتي السياسية ، بوعي متجدد، وأصبحت أجاهد في أن الحصول علي الحق ليس مرتبطاً بقدرة المواطن علي سداد تكلفته ، بل بقدرة المجتمع كله علي تمويله بحيث لا يحرم منه تحت أي ظروف أي طفل أو شاب .
أعتقد أنه علي كل قارئ أن يعرف التركيبة النَّفسيَّة والذهنية لنفسه و لكل من يقرأ له ويستمع اليه، وهل يربط الأفكار والمبادئ التي يتحدث عنها نسيجٌ ما؟ ولو كان، فما هي ركائزه التي يُبني عليها تَّناسُقه.؟
قال لي صديقٌ: “ولماذا، ومن أين أتَت فكرة الحوارات مع الحالمين بالغد؟ وكيف تَوهَّج وجدانُكَ وزاد إيمانك المستدام بقدرة الشباب على الإبداع والابتكار رغم ما يظهر في المجتمع من عدم وعي بذلك !
كلُّها تساؤلات لم أُفكِّر في صياغة الإجابة عليها، إلَّا بعد أسئلة الشباب، و وجدتُ أن كتابة هذا المقال قد يكون مُناسِبًا لتبرير دوافع وتركيبة مجتمعنا كأفراد وكمجموع ووعي كل منا بحقيقة من يتحكمون في حياتنا، سياسياً وثقافياً و من نقرأ ونستمع لهم .
يجب أن نعي أن “الفكرة” حين يأتي أوان خروجها للنور، تصبح قوة جبارة ، والعقل الواعي هو القادر على احترام الفكرة، حتى ولو لم يؤمن بها؛ لذلك خصَّصتُ بضع صفحات من كتابي الجديد “أنا والميمات ” حول الأفكار و تطورها وكيفية انتقالها من إنسانٍ لآخر، ومن جيل إلى جيل ، و حول الوعي وأهمِّيَّته.
“الميم” بالإنجليزية (mem)؛ هو مصطلح يُقصد به فكرة، أو تَصرُّف، أو أسلوب ينتشر من شخص لآخر داخل ثقافةٍ ما، غالبًا بهدف نَقل ظاهرة مُعيَّنة، أو معنى مُتمثِّل في هذه الفكرة.
يعمل “الميْم” كوحدة لحمل الأفكار الثقافية أو الرموز أو الممارسات، والذي يمكن أن ينتقل من عقل إلى آخر من خلال الكتابة، أو الحديث، أو الإيماءات، أو الطقوس، أو أي ظاهرة أخرى قابلة للتَّقليد يربط بينها صورة عامة. قد تكون الفكرة بسيطة، وقد تكون مُركَّبة. إن “الميمات” نظيرٌ ثَقافيٌّ” للچينات”، في أنها تُضاعِف نفسها وتتحوَّر وتتطوَّر وتستجيب للضغوط الانتقائية.
يقول الأستاذ العقاد إننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص نَحرِمُ أنفسنا من الفكرة الجيدة حين تأتي من الضِّدِّ، ونتورَّط في الفكرة السخيفة طالما جاءت من صديق.
ووعينا بالتَّاريخ يقول إن صاحب الفكرة الجديدة قد يُعتبر مُجرِمًا في إطار ثقافي مُتزمِّت، حتى يُكتب لفكرته النجاح فيصبح للفكرة ألف أب.
ونعي الآن قول ابن رشد” إن الأفكار لها أجنحة، ولا يمكن كبح جماح انتشارها حتى لو أحرقنا الكُتُب التي احتوتها، أو قَتَلنا الإنسان الذي ابتكرها”.
“الميمات” وعلاقتها بـ”الجينات”، وربط نظرية التطوُّر البيولوجية بتطوُّر الأفكار، وربط ذلك بنشر ما لدينا من أفكار، وتوثيقها، لتعيش وتتكاثر، هو موضوع محتوي كتاب “أنا و الميمات”، أعرض فيه أفكارًا قد يقبلها القارئ أو يختلف عليها، ولكنها تستحقُّ الحوار.
على العموم، فإنني وجدتُ أنني قد لا أقتنع بفكرة، ولكني لا أخاصم المفكِّر، وأعجبني قول جاليليو: “من السَّهل أن تفهم أي حقيقة بعد اكتشافها، لكن الفكرة في اكتشافها”، وقد يموت شخصٌ، وقد تنهض الأُمَم أو تتقوَّض، لكن الفكرة تستمرُّ في الحياة؛ فالأفكار لا تنتهي صلاحيتها إن كانت تستطيع مواجهة الثوابت التي ترتاح لتصديقها العامَّةُ وتصبح جزء من وعيهم الجمعي.
وعلينا أن نفهم أنه يصبح للفكرة قوة عندما تستولي على وجدان الجماهير، أو يفرضها البعض بالتكرار في أذهان الجموع… ولقد أصبحت هناك علوم في كيفية فِعل ذلك في العصر الحديث، وخلق حقائق ليس لها برهان، قد تنتشر وليس فيها صفات الصلاحية.
المقال والكتاب دعوة للمجتمع لاستخدام أفضل ما فينا كبَشَر، وما مَيَّزنا به الخالِقُ عن باقي خلقه، وهو “العقل”؛ لنشر أفكارنا والبحث في أفكار غيرنا وقبول الاختلاف بين البشر.
أركِّز كذلك وأدعوكم للتركيز على أهمية الوعي بالحفاظ علي “ميمات” القِيَم، التي تناوَلَتها حواراتي مع الشباب والأسرة ، وتلقَّيتُ لومًا حادًّا من بعضهم عن مسؤوليتنا ، كجيل أكبر، عن ضَياع الكثير من معاني هذه القيم، بثنائية تصرُّف جيلنا ومَن سبقونا مع قلب وفلسفة هذه القيم التي نتغنَّى بها، ونفاق المجتمع المتديِّن شَكلًا، والمتعصِّب أحيانًا كثيرة، متناقضًا مع قِيَم الأديان التي تحثُّ على السَّماحة والمحبَّة والموَدَّة والغفران.
الكلُّ قَلِقٌ على مستقبل مصر، وحريصٌ على نَسْج القِيَم الإنسانية في وجدان أطفالنا وشبابنا، في الأُسرَة، والمدرسة، والجامعة، و كلنا يعلم مدي عمق التحدي ، يضاف اليه خوفنا من ضَياع “الأَنْسَنَة” في سعينا وراء “الرَّقمَنة” في ظل الغيوم حول العديد من القيم في مجتمعنا والمجتمع الدولي.
وعندما أنظر الي العالم حولي أخشي ما أخشاه هو التلاعب بوعينا، وأفكارنا . الآن أري وأدرك أن الوعي قد يصبح مصنوعاً من الذين يملكون التقنيات علي خلق ما هو ليس مخلوقاً أو موجوداً ، وجعله حقيقة في وجدان الشعوب ، بل ويرهبون كل من يشك أو يفكر بشكل مخالف. إنها صناعة وعي مختلق ، وباستقراره ودوام تأكيده ، يبدأ الجمع في التصديق ، بل تجد بعد زمن استعداد الشعوب بالتضحية برفاهيتها بل بحياة أفرادها من أجل قضية خُلقت وأصبحت تمثل وعياً جمعياً .
إن حرب روسيا وأوكرانيا وموقف الغرب ينبئنا أن أوروبا لا تختلف هنا عن شعوب العالم الثالث والنامي ..
ما يحدث بين البشر ووعيهم بما يحدث حولهم سواء بتصديق إدعاءات سياسية ، ترسم وعياً زائفاً في العقول وتحدد من هو الصديق ومن هو العدو ، ونعي أنه بعد جيلين من خلق وعي جمعي مصنوع تضيع حقائق كثيرة ونعيش في وعي زائف خلقه من يملك الأدوات ومن يرسم السيناريوهات ومن عنده قدرة التحكم في الإعلام و السوشيال ميديا..
انه وعي عرائس المسرح الذي يصنعه من يحرك الخيوط التي تحكي قصة وجودهم علي هذا المسرح.
السؤال هو : هل تعي من أنت ومن أنا ؟ هل نحن عرائس علي مسرح الحياة أم نحن من نحرك الخيوط؟؟