بقلم د حسام بدراوي
سقطت الطائرة من علوها في مطب هوائي عميق، استغرق ثانية أو اثنتين، في عمر زمن الساعة، ويوما أو يومين في عمر الإحساس.. فكيف تمر في الذهن كل هذه الأحداث والذكريات والأفكار في ثانية واحدة.
صرخ الركاب ، وبكي البعض ذعرا وخوفا، وضحك البعض بعد الحادث ضحكا هيستيريا، وتمسكت كل أم بولدها.
انتهت اللحظة، وساد الصمت إلا من بعض الدعوات وحمد الله .
وانتابني أنا شعور غريب، في اللحظة وما بعدها. وسألت نفسي مع من يتكلم الله الآن ؟!
في هذه الثانية.
وعندما طرحت السؤال تخيلت أن الله يتواصل معي مباشرة قائلا، أنا أقرب إليك من حبل الوريد ، أنا أتواصل مع كل خلقي، إنسانا كان أم نباتا، حيوانا كان أو حشرة أو حتي جمادا.. ولأنه مد الإنسان بما لم يعطي غيره، وهو الوعي بنفسه وبغيره ، وبخالقه، ومده بالعقل والإرادة ، فتواصله معه دائم ومستمر، أما الإنسان فيفتح التواصل عند الرغبة، عند الخوف والرهبة، عند المرض والشكوي، والأغلبية اختارت عدم الاستماع المباشر لله إلا من خلال وسيط حتي لو كان زمنه قد ولي من آلاف السنين.
وحتى الصلاة التي فرضها علينا، فهمها أغلبنا شكلا وليس مضمونا، وأغلبهم يعتقدون أنها مجرد فريضة وعبادة وطاعة، وهي في الحقيقة تذكرة بالتواصل معه عز وجل، فالخط مفتوح من ناحيته طول الوقت ونحن من نحتاج للتذكرة!
وسألت نفسي مرة أخري، وكيف يتكلم الله، ليسمعه الناس ؟! لقد كان إرسال الرسل والأنبياء ليتكلمون عنه ومعنا له زمانه، الذي انتهي، ولكن سار علي نهجهم من بعدهم من ادعي هذه القدرات. ولكني بعد تفكير. وتعمق ، وبتحليل خبرتي الشخصية في التواصل، وصلت إلي أن الله يتواصل معنا من خلال أحاسيسنا، وأفكارنا وخبراتنا في الحياة وأخيرا بالكلمات.. فالكلمات محدودة بأحرف اللغة، أي لغة، ويمكن تفسيرها بأكثر من معني، وبمواقف وظروف وزمن قولها، ولكن الإحساس هو لغة الروح والنفس .
كذلك يتواصل الله بالأفكار ، ويعطينا أحيانا رسائله بما يخطر وما لا يخطر علي البال أنها رسائل منه، بل يعطينا أحيانا رؤى المستقبل بالخيال وما أنعم به علينا من فضول المعرفة، وومضات الذكاء التي تجعلنا نستكشف الحياة والعلم و المعارف ، الموجودة فعلا قبل اكتشافها، لأنها من صنعه أساسا، ونرتقي لمعرفة الكون وخالقه أفضل وأعمق .
كذلك يتواصل الله معنا من خلال تجاربنا في الحياة، فالتجربة هي مفتاح الخبرة، والخبرة طريق الحكمة، والحكمة تفتح أعيننا لحقائق الحياة وخيرها ولقرب الله لنا، قربا قد لا يعلمه البعض أو يحس به بالرغم من دوام تواصله معنا.
وتأتي الكلمات بعد الإحساس، والأفكار والخبرة، لأنها وسيلة يمكن إساءة فهمها ،وإعادة تفسيرها ، بل استخدامها البعض لغير أهداف قولها بعد إقتطاعها من مضمون معانيها الأشمل.
الكلمات قد تجعلنا أكثر فهمًا لشئ ولكن الخبرة تجعلنا اكثر معرفة.
والغريب أننا بمرور الزمن جعلنا الكلمات فقط هي وسيلتنا للتواصل مع الله، ونردد كلمة الله، وكلام الله، ونتحدث بكلمات بإسم الله بل نسمع القرآن، وهو كلام الله فعلا ، وكأنه غناء بدون استماع أو حتي محاولة فهم ، ونتغاضى عن قدراتنا في الفهم وتجاربنا وإحساسنا وأفكارنا التي لا تحتاج لتفسير كلام يقوله آخرون باسم الله.
يقول البعض إن الأفكار التي تراودها قد تكون شرا فكيف نفرق بينها وبين رسائل الله التي يبثها الله لنا وفينا، وأقول لكم إن رسائل الله لابد فيها البهجة والوضوح والحقيقة والمحبة والعدل. الشر هو انعدام الخير ، والله لا يخلق سوي خيرا ولا يقول إلا خيرا.
وهل هناك أفراد بعينهم قادرون علي التواصل دون غيرهم ؟ هل هناك أوقات مخصوصة للتواصل؟
الكثيرون يعتقدون أن لله طرقا خاصة للتواصل مع البشر وأن المميزين فقط هم من ينتقيهم.
سؤال يطرحه الناس بل يعتقدون بهذه الخصوصية، ولكني أرى أن كل الناس وكل إنسان هو إنسان مميز ، ولا يوجد وقت محدد لتواصله مع الله.
فخصوصيه تواصل الله مع أفراد بعينهم تبعد أغلبية البشر من مسئولية التواصل المباشر معه ، والاستماع لرسائله، بل وتدفعهم لأخذ ما يقوله آخرين كبديل. في هذه الحالي فقد استبدلنا نحن بإرادتنا السلبية، استبدلنا الله الذي لا يكف عن التواصل مع كل إنسان للاستماع لرسائله من خلال آخرين.. لقد قمنا باختراع بديل ووسيط لما هو متاح لنا مباشرة من خالقنا. لقد قررنا أن الاستماع إلي آخرين بدلا من الاستماع إلى الله نفسه، فقد أرسل لنا كتابه، ويتواصل مع كل واحد منا في أفكاره، وتجاربه في الحياة وأحاسيسه ، ونعتقد أننا قد يسرنا الأمور علي أنفسنا بالاعتماد علي غيرنا في الفهم والتواصل !
إنك عندما تصلي ، بأي شكل من أشكال الصلاة ، في كل دين ، واعتقاد، فهو طريق مزدوج، منك وإليك للتواصل، وليس طريقا في اتجاه واحد يقصد به العبادة والطاعة وأداء الفريضة فقط ،فقد تحتاج انت كإنسان التذكرة للتواصل مع الله ولكن الله يتواصل معك طول الوقت ، أنت فقط لا تري أو لا تستمع ..
إذا فهم كل إنسان أن الله يرسل له شخصيا رسائله فقد أصبحت مسئولا عن ترجمتها وفهمها. وهذا أكثر أمانا له في تفسير ما يسمعه عن مجرد الانصياع لتفسير من عاشوا قبله بآلاف السنين.
كذلك فإن الله يغير رسائله وإن احتفظت بجوهرها لأنه صانع الزمن ، ويعلم كيف تتغير الأحوال بزيادة المعارف وعمق العلوم، لأنه في النهاية مالك العلم والمعرفة ، ولكنه يتيح منها ما نستطيع أن تتحمله عقولنا التي تتطور ومعارفنا التي تتسع. فإذا تمسكنا بتفسير من سبقونا فكأننا ننكر رسائل الله وتواصله المستمر معنا.
لحظة خوف، ولحظة رهبة، وثانية من عمر الزمن أمدتني بالفكرة والإحساس والتجربة
أشكرك يا رب علي تنويري