الثلاثاء , 3 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / مواجهة ساخنة بين الأجيال «2»

مواجهة ساخنة بين الأجيال «2»

استمرارا فى المواجهة بين الأجيال، امتد الحوار بينى وبين شباب الحالمين بالغد وبعضٍ من أهاليهم حول اختلاف وجهات النظر واتهامات الشباب للجيلين الأكبر بأنهم السبب فى تضارب مفاهيمهم واختلاط قيمهم.

قالت الشابة الثائرة المثقفة: كنت قد ذكرت لنا يا دكتور أنك تريد تضمين بعض القيم الإنسانية المهمة فى برامج مؤسسات التعليم، بهدف البناء الصحى لوجدان الأطفال والشباب، ونريد مناقشتك فى ماهية هذه القيم، وهل لها نفس المفهوم لدينا.

قلت: هذا موضوع مهم، لأننى متفق معكم أن جيلنا ومن قبله ومن بعده قد يكونون سببا فى اضطراب مفاهيم بعض القيم لديكم، خصوصا بتكرار ذكرها وفى نفس الوقت العمل بعكسها.

وقد كنت مع مجموعة من الباحثين قد حددنا ٣٥ قيمة إنسانية مهمة لابد من إرسائها فى المجتمع والتأكد من الاتفاق على معاييرها ووسائل قياسها بشكل علمى..

قالت: هناك نوعان من القيم، قيم تدّعونها وقيم تعيشونها، فأى نوع تقصد؟

قلت: أفهم ما تعنين، رغم قسوته إلا أننى أتقبله. وعليكم أن تفهموا أن أولى مراحل الحقيقة هى الاعتراف بالواقع وتحديده، وهذا هو سبب اهتمامى بالقيم وتعريفها معكم وتوضيح نوعية الفجوة التى من الممكن أن تكون قد حدثت بين الأجيال فى هذا الأمر. عندما أستعمل كلمة «قيم» فإنى أعنى بها القيم التى نعيشها، أى التى لا نخالفها فى أفعالنا وفى علاقاتنا وتعاملنا مع الآخرين، وفى علاقتنا مع الطبيعة، وفى مواقفنا العملية وطالتى نكون على استعداد لدفع الثمن من أجلها، هى المبادئ التى تحكم ما نفعله، وليس ما نقوله أو نفكر فيه، إلا إذا كان ذلك متوافقاً مع ما نفعله. فأفعالنا هى المقرر الحقيقى للقيم التى نحملها ونعيش بموجبها.

فلا معنى للحوار عن القيم بمعزل عن الممارسة والسياق المجتمعى بمختلف أبعاده. كما أنه لا معنى للحوار عن قيم فى السياسة وأخرى فى التعليم وثالثة فى الدين وأخرى فى الاقتصاد أو فى العلوم أو فى المجتمع أو فى الفنون.. وكأن هناك مجموعات مختلفة من القيم فى المجالات المختلفة، فالقيم لا تتجزأ ويجب ألا تتجزأ.

قالت واحدة من الأمهات التى تحضر الحوار: كيف تقول أن القيم لا تقسم، فهناك قيم دينية مثلا علينا إرساؤها وفرضها على أولادنا.

قلت: يا سيدتى القيم ليست شعارات تُرفع وإنما قناعات تُترجَم من خلال تصرفاتنا وسلوكنا وتعاملنا مع الآخرين. هى مبادئ متضمنة فى أفعالنا وعلاقاتنا. وقد جاء فى الإسلام أن «الدين هو المعاملة»، وجاء على لسان المسيح عليه السلامإِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. بعبارة أخرى، تؤكد العبارتان أن المعيار الدينى يعود إلى علاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين، كيف نعاملهم ومدى صدقنا معهم ومحبتنا لهم، أى أن الفاصل بين الواقع والادعاء بالنسبة للقيم يكمن فى الأفعال وليس فى الأقوال. بالنسبة للنبى محمد وللمسيح، عليهما السلام، كان تركيزهما على الإنسان الصالح، وعلى مكارم الأخلاق، ولا تختلف الأديان كلها فى نوعية القيم الإنسانية الفاضلة. القيم عابرة للأديان.

قالت الشابة الأولى: وما هذه القيم الرئيسية التى تتكلم عنها؟

قلت: اخترنا ٣٥ قيمة، وهى الصدق- الدقة- الجمال- السماحة- المحبة- النظافة- الحرية- الصبر- الشجاعة- الرحمة- الإيمان- العلم- الإحسان- الشكر- الاعتذار- الغفران- العطاء- الاحترام- الرأفة- الامتنان- السعادة- الصداقة- المسؤولية- المواطنة- التواضع- العدالة- الإتقان- البر بالوالدين- الكبرياء- الاستماع- التضحية- الطاعة والاحترام- التكافل- النزاهة- المشاركة.

قال شاب آخر: سأختار أربع قيم مما تقول يا دكتور أرى أننا سنختلف فى تعريفها، ونناقشها معك.

قلت: تفضلوا.

قالت زميلته: اخترنا قيم الصبر، والشجاعة، والتضحية، والاحترام والطاعة.

علق ثالث- مما يدل أنهم بذكاء عندما عرفوا موضوع الحوار قاموا بواجبهم فى النقاش سويا قبل اللقاء معى، وهو ما أسعدنى- علق قائلا: مثلا عندى رغبة فى تغيير قيمة الصبر التى ندعو إليها. هناك صبر سلبى لا أستحسنه، وهو الرضا بالمرض والألم والفشل وأحيانا نسميه قضاء الله. وما نعتبره قضاء الله قد لا يكون نهائيا، ويستطيع الإنسان تغييره وتعديله، هذا صبر سلبى، أما الصبر الإيجابى فهو السعى الحثيث لتغيير الواقع غير المرضى أو المؤلم والبحث عن علاج وأخذ الدواء إن وجد.

وتغيير ما فى النفس ليتغير ما حولها. يا دكتور قيمة الصبر الأيوبى هو الرضا بما نظن أن الله قد قسمه لنا وانتظار فرجه.

ونحن لا يرضينا ذلك ولا نود نقله بهذا المعنى للأطفال.

الصبر ليس مفتاح الفرج بل التفكير فى الخلاص والسعى لتغيير الواقع إن كان غير مناسب هو مفتاح الفرج.

عاوزين نغير اليافطة الموجودة فى مكاتب الموظفين التى تقول الصبر مفتاح الفرج إلى السعى والعمل مفتاح الفرج.. المعرفة مفتاح الفرج.

قلت: أحسنتم فى التعبير وأوافقكم على المدخل فى تعديل المفهوم.

قالت زميلته: أنا أساسا أرى أن قيمة التضحية غريبة، لأنه لا يوجد شىء يمكن وصفه بالتضحية.

ابتسمت متعجبا وقلت إذن أنتِ لا تعترفين بتضحية الأم لأولادها، أو التضحية فى الحب التى كتب عنها الشعراء والأدباء مثلا؟!!!

قالت: لقد علمتنا أن نبحث عن تعريف كل كلمة ومعناها قبل الخوض فى أى حوار، وتعريف التضحية هو بذل النَّفس أو الوقت أو المال لأجل غاية أسمى، ولأجل هدف أرجى، بدون مقابل، وحضرتك ركز معانا فى جمله بدون مقابل.. إذن التضحية هى الفعل الذى لا مقابل له، والحقيقة أن كل أفعال البشر لها مقابل، فسعادة الأم بنجاح أولادها أو النجاح فى حمايتهم مقابل. الطبيعة تقول إن ما يفعله الآباء لأولادهم يسعدهم أكثر، وسعادتهم جزاؤهم. وبذل المال والنفس فى انتظار الأجر والثواب عند الله هو مقابل كبير جدا. ولا توجد تضحية فى علاقات المحبة، لأن سعادة المحبين بالعطاء لبعض هى مكافآتهم، وعادة ما تظهر كلمة التضحية عندما يتوقف الحب وينظر كل واحد إلى الماضى فيرى ما كان يفعله تضحية. فى ساعة الفعل لم تكن تضحية لأن سعادة عطاء المحب كانت المقابل.

نظر إلى زميلهم وقال: أما ضم قيمة الاحترام بالطاعة فهو مرفوض تماما. أساسا الطاعة للعبيد وليست للأحرار. أفهم الالتزام بالقواعد، أفهم الحوار باحترام، أفهم الالتزام بالتعاقد او الاتفاق.. أما الطاعة فمعناها التخلى عن العقل واستعباد للبشر.

قالت الشابة الأولى: تعريفات الشجاعة فى المعجمات وكتب علم النفس ومراجع الدين والأخلاق تقول، إن الشجاعة فى اللغة تدل على الجرأة والإقدام على المهالك والمكاره. وفى الشجاعة رباطة جأش وثبات، إضافة إلى الاستهانة بالموت وعدم الاكتراث أو الخوف منه، وقد وردت تعريفات عربية بأن الشجاعة هى التى يبذل فيها الإنسان الشجاع نفسه دفاعًا عن الدين أو عن الحريم أو عن الجار أو المستجير المظلوم، وعن المظلوم فى المال أو العرض أو فى مختلف سبل الحق سواء كان الظلم قليلًا أو كثيرًا.

قلت أحسنتم مرة أخرى، ولنا عودة لموضوع التضحية، فالشجاعة هى المواجهة عن علم وبالقدرة على التنفيذ، وإلا أصبحت تهورًا.. هى مواجهة الظلم عن علم بالعدل وبالقدرة على إرسائه. ومواجهة الباطل عن علم بالحق والقدرة على إرجاعه. ومواجهة الفقر عن علم بالقناعة والإقدام بشرف للخروج منه، ومواجهة الضعف عن علم بالقوة والقدرة على فرضها بالعدلومواجهة الذل عن علم بالعزة والقدرة على ممارستها.

الشجاعة هى فضيلة ومثل كل الفضائل موقعها وسط بين رذيلتين

فالشجاعة المفرطة تُعد تهوراً، وانعدام الشجاعة يُعد جبناً.

وأما عن كون تعريف الشجاعة بالموت فى الحروب وتلقى الطعنات فقط فهو تعريف ناقص، ويأتى على الخاطر شجاعة إبداء الرأى وشجاعة طلب الحرية.

قال أحد الشباب: التعليم شجاعة يا دكتور؛ ففيه إقدام على مواجهة الجهل وشجاعة تغيير الواقع.

قلت: أفحمتمونى يا شباب.. وإلى باقى القيم فى الحوار القادم.

التعليقات

التعليقات